الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقيل: أنزل جملة ليلة القدر إلى البيت المعمور، ومن هناك كان جبريل يتلقاه.وقال عكرمة وغيره: هي ليلة النصف من شعبان، وقد أوردوا فيها أحاديث.وقال الحافظ أبوبكر بن العربي: لا يصح فيها شيء، ولا في نسخ الآجال فيها.إنا كنا منذرين: أي مخوفين.قال الزمخشري: فإن قلت: {إنا كنا منذرين فيها يفرق كل أمر حكيم}، ما موقع هاتين الجملتين؟ قلت: هما جملتان مستأنفتان ملفوفتان، فسر بهما جواب القسم الذي هو قوله تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة مباركة}، كأنه قيل: أنزلناه، لأن من شأننا الأنذار والتحذير من العقاب. وكان إنزالنا إياه في هذه الليلة خصوصًا، لأن إنزال القرآن من الأمور المحكمة، وهذه الليلة مفرق كل أمر حكيم، والمباركة: الكثيرة الخير، لما ينتج الله فيها من الأمور التي تتعلق بها منافع العباد في دينهم ودنياهم، ولو لم يوجد فيها إلا إنزال القرآن وحده، لكفى به بركة. انتهى.وقرأ الحسن، والأعرج، والأعمش: {يفرق}، بفتح الياء وضم الراء، {كل}: بالنصب، أي يفرق الله.وقرأ زيد بن علي، فيما ذكر الزمخشري: {نفرق} بالنون، {كل} بالنصب؛ وفيما ذكر أبو على الأهوازي: عينه بفتح الياء وكسر الراء، ونصب {كل}، ورفع {حكيم}، على أنه الفاعل بيفرق.وقرأ الحسن وزائدة عن الأعمش بالتشديد مبنيًا للمفعول، أو معنى {يفرق}: يفصل من غيره ويلخص.ووصف {أمر} بحكيم، أي أمر ذي حكمة؛ وقد أبهم تعالى هذا الأمر.وقال ابن عباس، والحسن، وقتادة، ومجاهد: في ليلة القدر يفصل كل ما في العام المقبل من الأقدار والأرزاق والآجال وغير ذلك، ويكتب ذلك إلى مثلها من العام المقبل.وقال هلال بن أساف: كان يقال: انتظر والقضاء في رمضان.وقال عكرمة: لفضل الملائكة في ليلة النصف من شعبان.وجوزوا في {أمرًا} أن يكون مفعولا به بمنذرين لقوله: {لينذر بأسًا شديدًا} أو على الاختصاص، جعل كل أمر حكيم جزلًا فخمًا، بأن وصفه بالحكيم، ثم زاده جزالة وفخامة نفسه بأن قال: أعني بهذا الأمر أمرًا حاصلًا من عندنا، كائنًا من لدنا، وكما اقتضاه علمنا وتدبيرنا، كذا قال الزمخشري.وقال: وفي قراءة زيد بن علي: {أمرًا من عندنا}، على هو أمرا، وهي نصب على الاختصاص ومقبولا له، والعامل {أنزلنا}، أو {منذرين}، أو {يفرق}، ومصدرًا من معنى يفرق، أي فرقًا من عندنا، أو من أمرنا محذوفًا وحالًا، قيل: من كل، والذي تلقيناه من أشياخنا أنه حال من أمر، لأنه وصف بحكيم، فحسنت الحال منه، إلا أن فيه الحال من المضاف إليه، وهو ليس في موضع رفع ولا نصب، ولا يجوز.وقيل: من ضمير الفاعل في {أنزلناه}، أي أمرني.وقيل: من ضمير المفعول في {أنزلناه}، أي في حال كونه أمرًا من عندنا بما يجب أن يفعل.والظاهر أن {من عندنا} صفة لأمرًا، وقيل: يتعلق بيفرق.{إنا كنا مرسلين}: لما ذكر إنزال القرآن، ذكر المرسل، أي مرسلين الأنبياء بالكتب للعباد.فالجملة المؤكدة مستأنفة.وقيل: يجوز أن يكون بدلًا من {إنا كنا منذرين}.وجوزوا في {رحمة} أن يكون مصدرًا، أي رحمنا رحمة، وأن يكون مفعولا له بأنزلناه، أو ليفرق، أو لأمرًا من عندنا.وأن يكون مفعولا بمرسلين؛ والرحمة توصف بالإرسال، كما وصفت به في قوله: {وما يمسك فلا مرسل له من بعده} والمعنى على هذا: أنا نفصل في هذه الليلة كل أمر، أو تصدر الأوامر من عندنا، لأن من عادتنا أن نرسل رحمتنا.وقرأ زيد بن علي، والحسن: {رحمة}، بالرفع: أي تلك رحمة من ربك، التفاتًا من مضمر إلى ظاهر، إذ لوروعي ما قبله، لكان رحمة منا، لكنه وضع الظاهر موضع المضمر، إيذانًا بأن الربوبية تقتضي الرحمة على المربوبين.وقرأ ابن محيصن، والأعمش، وأبو حيوة، والكوفيون: {رب السموات}، بالخفض بدلًا من {ربك}؛ وباقي السبعة، والأعرج، وابن أبي إسحاق، وأبو جعفر، وشيبة: بالرفع على القطع، أي هو رب.وقرأ الجمهور: {ربكم ورب}، برفعهما؛ وابن أبي إسحاق، وابن محيصن، وأبو حيوة، والزعفراني، وابن مقسم، والحسن، وأبو موسى عيسى بن سليمان، وصالح الناقط، كلاهما عن الكسائي: بالجر؛ وأحمد بن جبير الأنطاكي: {ربكم ورب}، بالنصب على المدح، وهم يخالفون بين الإعراب، الرفع والنصب، إذا طالت النعوت.وقوله: {إن كنتم موقنين}، تحريك لهم بأنكم تقرون بأنه تعالى خالق العالم، وأنه أنزل الكتب، وأرسل الرسل رحمة منه، وأن ذلك منكم من غير علم وإيقان.و لذلك جاء: {بل هم في شك يلعبون}، أي في شك لا يزالون فيه يلعبون.فإقرارهم ليس عن حد ولا تيقن.{فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين}.قال علي بن طالب، وابن عمر، وابن عباس، وسعيد الخدري، وزيد بن علي، والحسن: هو دخان يجيء يوم القيامة، يصيب المؤمن منه مثل الزكام، وينضج رءوس الكافرين والمنافقين، حتى تكون مصقلة حنيذة.وقال ابن مسعود، وأبو العالية، والنخعي: هو الدخان الذي رأته قريش.قيل لعبد الله: إن قاصًا عند أبواب كندة يقول إنه دخان يأتي يوم القيامة، فيأخذ أنفاس الناس، فقال: من علم علمًا فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم.ألا وسأحدثكم أن قريشًا لما استعصت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، دعا عليهم فقال: «اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف»، فأصابهم الجهد حتى أكلوا الجيف، والعلهز.والعلهز: الصوف يقع فيه القراد فيشوى الصوف بدم القراد ويؤكل.وفيه أيضًا: حتى أكلوا العظام.وكان الرجل يرى بين السماء والأرض الدخان، وكان يحدث الرجل فيسمع الكلام ولا يرى المحدث من الدخان.فمشى إليه أَبُو سُفْيَان ونفر معه، وناشده الله والرحم، وواعدوه، إن دعا لهم وكشف عنهم، أن يؤمنوا.فلما كشف عنهم، رجعوا إلى شركهم.وفيه: فرحمهم النبي صلى الله عليه وسلم، وبعث إليهم بصدقة ومال.وفيه: فلما أصابتهم الرفاهية عادوا إلى حالهم، فأنزل الله عز وجل: {يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون} قال: يعني يوم بدر.وقال عبد الرحمن: خمس قد مضين: الدخان، واللزام، والبطشة، والقمر، والروم.وقال عبد الرحمن الأعرج: {يوم تأتي السماء}، هو يوم فتح مكة، لما حجبت السماء الغبرة.وفي حديث حذيفة: أول الآيات خروج الدجال، والدخان، ونزول عيسى بن مريم، ونار تخرج من قعر عدن؛ وفيه قلت: يا نبي الله، وما الدخان على هذه الآية: {فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين}؟ وذكر بقية الحديث، واختصرناه بدخان مبين، أي ظاهر.لا شك أنه دخان {يغشى الناس}: يشملهم.فإن كان هو الذي رأته قريش، فالناس خاص بالكفار من أهل مكة، وقد مضى كما قال ابن مسعود؛ وإن كان من أشراط الساعة، أو يوم القيامة، فالناس عام فيمن أدركه وقت الأشراط، وعام بالناس يوم القيامة.{هذا عذاب} إلى {مؤمنون} في موضع نصب بفعل القول محذوفًا، وهو في موضع الحال، أي يقولون.ويجوز أن يكون إخبارًا من الله، كأنه تعجب منه، كما قال في قصة الذبيح: {إن هذا لهوالبلاء المبين} {إنا مؤمنون}: وعد بالإيمان إن كشف عنهم العذاب، والإيمان واجب، كشف العذاب أولم يكشف.{أنى لهم الذكرى}: أي كيف يذكرون ويتعظون ويقولون بما وعدوه من الإيمان عند كشف العذاب، وقد جاءهم ما هو أعظم؟ وأدخل في باب الادكار من كشف الدخان؟ وهو ما ظهر على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الآيات والبينات، من الكتاب المعجز وغيره من المعجزات، فلم يذكروا، وتولوا عنه وبهتوه بأن عدّاسا غلامًا أعجميًا لبعض ثقيف هو الذي علمه، ونسبوه إلى الجنون.وقرأ زر بن حبيش: معلم، بكسر اللام.{إنا كاشفوا العذاب قليلًا}: إخبار عن إقامة الحجة عليهم، ومبالغة في الإملاء لهم.ثم أخبر أنهم عائدون إلى الكفر.وقال قتادة: هو توعد بمعاد الآخرة: وإن كان الخطاب لقريش حين حل بهم الجدب، كان ظاهرًا؛ وإن كان الدخان قبل يوم القيامة، فإذا أتت السماء بالعذاب، تضرع منافقوهم وكافروهم وقالوا: ربنا اكشف عنا العذاب، إنا مؤمنون.فيكشف عنهم، قيل: بعد أربعين يومًا؛ فحين يكشفه عنهم يرتدون.ويوم البطشة الكبرى على هذا: هو يوم القيامة، كقوله: {فإذا جاءت الطامة الكبرى} وكونه يوم القيامة، هو قول ابن عباس والحسن وقتادة.وكونه يوم بدر، هو قول عبد الله وأبي وابن عباس ومجاهد.وانتصب يوم نبطش، قيل: بذكراهم، وقيل: بننتقم الدال عليه منتقمون، وضعف بأنه لا نصب إلا بالفعل، وقيل: بمنتقمون.ورد بأن ما بعد إن لا يعمل فيما قبلها.وقرأ الجمهور: {نبطش}، بفتح النون وكسر الطاء؛ والحسن، وأبو جعفر: بضمها؛ والحسن أيضًا، وأبو رجاء، وطلحة: بضم النون وكسر الطاء، بمعنى: نسلط عليهم من يبطش بهم.والبطشة على هذه القراءة ليس منصوبًا بنبطش، بل بمقدر، أي نبطش ذلك المسلط البطشة، أو يكون البطشة في معنى الإبطاشة، فينتصب بنبطش.{ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون}: هذا كالمثال لقريش، ذكرت قصة من أرسل إليهم موسى عليه السلام، فكذبوه، فأهلكهم الله.وقرىء: {فتنا}، بتشديد التاء، للمبالغة في الفعل، أو التكثير، متعلقة {وجاءهم رسول كريم}: أي كريم عند الله وعند المؤمنين، قاله الفراء؛ أو كريم في نفسه، لأن الأنبياء إنما يبعثون من سروات الناس، قاله أبو سليمان؛ أو كريم حسن الخلق، قاله مقاتل.{أن أدوا إليّ عباد الله} يحتمل أن تكون أن تفسيرية، لأنه تقدم ما يدل على معنى القول، وهو رسول كريم، وأن تكون أن مخففة من الثقيلة أو الناصبة للمضارع، فإنها توصل بالأمر.قال ابن عباس: أن أدوا إليّ الطاعة يا عباد الله: أي اتبعوني على ما أدعوكم إليه من الإيمان.وقال مجاهد، وقتادة، وابن زيد: طلب منهم أن يؤدوا إليه بني إسرائيل، كم قال: فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم.فعلى ابن عباس: {عباد الله}: منادى، ومفعول {أدوا} محذوف؛ وعلى قول مجاهد ومن ذكر معه: {عباد الله}: مفعول {أدوا}.{إني لكم رسول أمين}: أي غير متهم، قد ائتمنني الله على وحيه ورسالته.{وأن لا تعلوا على الله}: أي لا تستكبروا على عبادة الله، قاله يحيى بن سلام.قال ابن جريح: لا تعظموا على الله.قيل: والفرق بينهما أن التعظيم تطاو ل المقتدر، والاستكبار ترفع المحتقر، ذكره الماوردي، وأن هنا كان السابق في أوجهها الثلاثة.{إني آتيكم بسلطان مبين}: أي بحجة واضحة في نفسها، وموضحة صدق دعواي.وقرأ الجمهور: {إني}، بكسر الهمزة، على سبيل الإخبار؛ وقرأت فرقة: بفتح الهمزة.والمعنى: لا تعلوا على الله من أجل أني آتيكم، فهذا توبيخ لهم، كما تقول: أتغضب إن قال لك الحق؟ {وإني عذت}: أي استجرت {بربي وربكم أن ترجمون}: كانوا قد توعدوه بالقتل، فاستعاذ من ذلك.وقرىء: {عدت}، بالإدغام.قال قتادة وغيره: الرجم هنا بالحجارة.وقال ابن عباس، وأبو صالح: بالشتم؛ وقول قتادة أظهر، لأنه قد وقع منهم في حقه ألفاظ لا تناسب؛ وهذه المعاذة كانت قبل أن يخبره تعالى بقوله: {فلا يصلون إليكما} وإن لم تؤمنوا إلي: أي تصدقوا، فاعتزلون: أي كونوا بمعزل، وهذه مشاركة حسنة.{فدعا ربه}: أني مغلوب فانتصر، {أن هؤلاء}: لفظ تحقير لهم.وقرأ الجمهور: {أن هؤلاء}، بفتح الهمزة، أي بأن هؤلاء.وقرأ ابن أبي إسحاق، وعيسى، والحسن في رواية، وزيد بن علي: بكسرها.{فأسر بعبادي}: في الكلام حذف، أي فانتقم منهم، فقال له الله: أسر بعبادي، وهم بنوا إسرائيل ومن آمن به من القبط.وقال الزمخشري: فيه وجهان: إضمار القول بعد الفاء، فقال: أسر بعبادي، وأن يكون جوابًا بالشرط محذوف؛ كأنه قيل: قال إن كان الأمر كما تقول، فأسر بعبادي. انتهى.وكثيرًا ما يجيز هذا الرجل حذف الشرط وإبقاء جوابه، وهو لا يجوز إلا لدليل واضح؛ كأن يتقدمه الأمر وما أشبهه مما ذكر في النحو، على خلاف في ذلك.{إنكم متبعون}: أي يتبعكم فرعون وجنوده، فتنجون ويغرق المتبعون.{واترك البحر رهوا}: قال ابن عباس: ساكنًا كما أجراه.وقال مجاهد وعكرمة: يبسًا من قوله: {فاضرب لهم طريقًا في البحر يبسًا} وقال الضحاك: دمثًا لينًا.وقال عكرمة: جددًا.وقال ابن زيد: سهلًا.وقال مجاهد أيضًا: منفردًا.قال قتادة: أراد موسى أن يضرب البحر بعصاه، لما قطعه، حتى يلتئم؛ وخاف أن يتبعه فرعون، فقيل: لمه هذا؟ {إنهم جند مغرقون}: أي فيه، لأنهم إذا رأوه ساكنًا على حالته حين دخل فيه موسى وبنوا إسرائيل، أو مفتوحًا طريقًا يبسًا، دخلوا فيه، فيطبقه الله عليهم.{كم تركوا}: أي كثيرًا تركوا.{من جنات وعيون}: تقدم تفسيرهما في الشعراء.وقرأ الجمهور: {ومقام}، بفتح الميم.قال ابن عباس، ومجاهد، وابن جبير: أراد المقام.وقرأ ابن هرمز، وقتادة، وابن السميفع، ونافع: في رواية خارجة بضمها.قال قتادة: أراد المواضع الحسان من المجالس والمساكن وغيرها.
|